المستشار وليد عزالدين يكتب: الشركات القابضة… إمبراطورية القانون والاقتصاد في يد كيان واحد
في زمنٍ تتشابك فيه خيوط الاقتصاد بالقانون، وتتعقد فيه خرائط الملكية والاستثمار، تظهر “الشركة القابضة” كأحد أهم الابتكارات القانونية في عالم الأعمال.
كيانٌ لا يُنتج سلعة ولا يُقدّم خدمة مباشرة، ومع ذلك يُحرّك مليارات الجنيهات ويدير عشرات الشركات التابعة، في صمتٍ منضبط، وذكاءٍ قانوني فريد.
إنها ببساطة العقل الاقتصادي الذي يُوجّه الأذرع الإنتاجية دون أن ينغمس في تفاصيلها اليومية.
في مصر، لم يكن ظهور الشركات القابضة وليد الصدفة، بل جاء ثمرة لتطور قانوني واقتصادي متدرج، بدأ مع قانون الشركات رقم 159 لسنة 1981، الذي وضع الإطار التشريعي لأول مرة لهذا الكيان الاستثماري المتفرّد.
فالقانون، ومعه اللائحة التنفيذية الصادرة بقرار وزير الاستثمار رقم 96 لسنة 1982، رسم بدقة معالم الشركة القابضة باعتبارها شركة تملك أسهماً أو حصصًا في شركات أخرى، وتسيطر عليها قانونيًا دون أن تمارس نشاطًا تجاريًا مباشرًا.
إنها نموذج يجمع بين القوة القانونية والحكمة الإدارية.
⸻
⚖️ الإطار القانوني للشركات القابضة في مصر
وفقًا للمادة (16) من اللائحة التنفيذية لقانون الشركات، يجوز أن يكون غرض الشركة القابضة “المشاركة في تأسيس شركات أخرى أو المساهمة في رأسمالها، أو تمويلها، أو تقديم القروض والضمانات لها”.
وهذا يعني أن المشرّع المصري أدرك منذ البداية أن الشركة القابضة هي أداة سيطرة قانونية أكثر منها وسيلة إنتاجية.
فهي تُمارس نفوذها عبر الملكية والإدارة العليا، لا عبر خطوط الإنتاج والمبيعات.
كما أوجب القانون على هذه الشركات إعداد قوائم مالية مجمعة تعكس نتائج أعمالها وأعمال الشركات التابعة، تحقيقًا لمبدأ الشفافية والمساءلة.
فالمشرّع أراد ضمان ألا تتحول القابضات إلى “صناديق مغلقة” بعيدة عن أعين الرقابة.
وبموجب القانون أيضًا، تخضع هذه الكيانات لرقابة مالية دقيقة من الجهاز المركزي للمحاسبات أو من مراقبي حسابات معتمدين لضمان سلامة الأداء المالي والإداري.
⸻
🧩 الهيكل الإداري والمسؤولية القانونية
يتكوّن هيكل الشركة القابضة من جمعية عامة تمثل المساهمين ومجلس إدارة يضع السياسات العامة ويراقب تنفيذها.
ويتحمل أعضاء المجلس مسؤولية قانونية كاملة عن أي تجاوز أو سوء استخدام للسلطة، سواء أمام المساهمين أو أمام القضاء.
وقد استقرّ القضاء المصري على مبدأ جوهري مفاده أن الشركة القابضة لا يجوز أن تُستغل للتحايل على القانون أو للإضرار بالشركات التابعة أو الغير، وأن استقلال الذمة القانونية لكل شركة لا يُمكن تجاوزه إلا إذا ثبت وجود غش أو تلاعب.
هذه الفلسفة القانونية تعكس توازنًا دقيقًا بين الحرية والمسؤولية:
حرية الشركة القابضة في إدارة استثماراتها، مقابل مسؤوليتها عن أي إساءة استخدام لتلك السيطرة.
⸻
💰 القابضات بين الدولة والقطاع الخاص
في الواقع المصري، يمكن القول إن الشركات القابضة أصبحت تمثل العمود الفقري لهيكلة الاقتصاد.
ففي القطاع العام، نجد القابضات الكبرى مثل الشركة القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس)، والقابضة للسياحة والفنادق، والقابضة للاتصالات، وكلها تدير مجموعات ضخمة من الشركات التابعة التي تعمل في مجالات استراتيجية.
أما في القطاع الخاص، فقد أصبحت القابضة وسيلة ذكية لتجميع الاستثمارات وتوزيع المخاطر بين أكثر من نشاط، مع الحفاظ على وحدة الإدارة.
ويرى عدد من فقهاء القانون التجاري أن هذا الشكل من الشركات يُجسّد فلسفة المشرّع في التوفيق بين حماية المستثمرين من جهة، وتنظيم السوق ومنع الاحتكار من جهة أخرى.
فالقانون لا يمانع في وجود كيان قوي، لكنه يشترط أن تكون قوته منضبطة ومشروعة.
⸻
🏁 خاتمة: القانون يصنع التوازن
لقد أثبتت التجربة أن الشركة القابضة ليست مجرد شكل قانوني، بل هي منظومة فكرية وإدارية تمكّن الاقتصاد من النمو دون فوضى، وتسمح بتوسّع الاستثمارات تحت رقابة القانون.
إنها تجسيد حيّ لمقولة أن “القانون الجيد لا يُقيد الاقتصاد، بل يُنظمه ويمنحه الاستقرار”.
ولذلك، تظل الشركات القابضة — في نظر المشرّع والاقتصادي معًا — رمزًا للسيطرة المشروعة والإدارة الذكية لرأس المال، وركيزة أساسية من ركائز التطور الاقتصادي في مصر الحديثة