بوابة الفلوس
بوابة الفلوس تقدم رؤى اقتصادية معمقة وتحليلات مميزة تركز على أسس الاستثمار والبناء.

السراب والفنجان  بقلم : زينب علي درويش

21

السراب والفنجان  بقلم : زينب علي درويش

 

كتب فتحى السايح 

كانت بيضاء الملامح، بعينين لوزيتين عسليتين، وشعر بني طويل يتماوج على كتفيها. ابتسامتها ساحرة، وقوامها ممشوق كأنها خلقت لتترك أثرا في الذاكرة. التقاها صدفة، فارتسمت صورتها في عينيه، وانطبعت في أعماق عقله، حتى صار يتمنى أن يسمع صوتها أو يعرف اسمها. لكنها كانت كالبرق، ظهرت ثم اختفت، تاركة قلبه معلقا بالفراغ.

بحث عنها في الليل والنهار، سأل الغرباء والخلان، لكن لا أحد أجابه. ومع كل صمت كان يظنها حلما، إلا أن قلبه كان يؤكد له أنها حقيقة… حقيقة تسكن أنفاسه، ترافق خطواته، وتهمس في داخله بهدوء وسكينة.

وأثناء بحثه المتواصل بين دهاليز ذاكرته، شعر وكأن صفعةخفية أيقظته: لقد ذابت صورتها فجأة، وغابت كما لو لم تكن. أحضر ورقة بيضاء ليكتب إليها ما يختلج في قلبه، لكنه لم يجدها. عزف ألحانا عذبة علها تعود، لكنها غابت كأنها وعد لن يتحقق.

حينها، لم يجد أمامه سوى أن يلجأ إلى قارئة فنجان، عساه يرى ملامحها بين خطوط القهوة المتشابكة. وعندما جلس أمامها، وقعت عيناه على زرقة عينيها المبللتين بدموع غزيرة، دموع تكفي لغسل هموم المكلومين. وفي تلك اللحظة، ارتجف قلبه واشتعل خوفه… خوف من أن يفقدها إلى الأبد، وهو ما لن يحتمله عقله ولا فؤاده..مزق الانتظار أوصاله، وهو يترقب كلمتها التالية. كانت تهمس بعبارات مبهمة، كأنها تأتي من عالم آخر. لم يستطع احتمال الغموض أكثر، فاندفع يسألها بصوت يملؤه اللهفة: لا أطيق الاحتمال… أهناك ما يزعجك؟

رفعت رأسها ببطء، وعيناها تلمعان بدموع لم تجف بعد، ثم قالت بنبرة ساخرة يختلط فيها الألم باليقين:

البحث عن السراب… سمة
المجانين. اذهب من حيث أتيت، فمفتاح طريقك ليس عندي. ما أراه لن أبوح به. لكنني أرى في قلبك ولدى العاشق نصيحتي: لا تبحث عما يهلكك.

تجمدت أنفاسه لحظة، كأن كلماتها صفعة أخرى على قلبه. لكنه ابتسم فجأة ونهض مسرعا، وكأنه وجد خيطا خفيا يهديه. تمتم في نفسه:

إذن… هي بخير. سأعرف طريقي.

وقبل أن يخطو خارج غرفتها الدافئة، نادته بصوت عذب يحمل في نبراته قوة خفية. توقف في مكانه، ولمعت عيناه ببارقة أمل، إذ شعر للحظة أنه انتصر، وأنها ستبوح بما أخفته عنه.

استدار إليها بخطوات ثابتة، وقال بثقة ممزوجة بالرجاء:

كنت على يقين أنك لن تكتمي سرا عني… فأنت بمثابة جدتي الحكيمة.

ابتسمت ابتسامة غامضة، ثم أشارت إليه أن يقترب. أجلسته بجوارها، وأمسكت بيده برفق، ثم جذبتها نحوها كأنها تريد أن تنقل إليه سرّا لا يقال بالكلمات.

بصوت خافت يقطر حكمة، قالت:

ضع يدك على صدرك… وأخبرني بما يقول لك قلبك.
وضع يده المرتجفة على صدره، لا يعرف للرجفة سببا ولا يجد لها تفسيرا. فجأة شعر بقلبه يلهث بين ضلوعه، وكأنه ملهوف، يستغيث، يبحث عن خلاص لا يدركه.

ارتبكت أنفاسه، وتداخلت في صدره دقات متلاحقة كأنها طبول حرب خفية، فغمره خوف لم يعهده من قبل… خوف ممزوج برجاء غامض، كأن قلبه نفسه يحاول أن يبوح بسر لم يفصح عنه بعد.

وبينما كان قلبه يلهث ويكاد يخرج من صدره، اقتربت منه أكثر، وضعت كفها على يده المرتجفة، وحدقت في عينيه بعمق أربكه. همست بصوت يقطر يقينا:

هي لم تغب عنك يوما… لأنها لم تكن سوى قلبك ذاته الذي ضيعته، فجئت تبحث عنه فى فنجان صغير

ارتجف جسده كله، وتلاشت من أمامه كما يتلاشى الضباب مع أول خيوط الفجر. نظر حوله مذهولا، فوجد نفسه جالسا وحيدا في غرفة خالية، وعلى الطاولة أمامه فنجان قهوة بارد، وورقته البيضاء التي كتب عليها أول كلمة: “هي”.

ابتسم وهو يتمتم:

السراب كان أنا… والسر كان في داخلي منذ البداية.

Zanabali322@gmail.com

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Verification: b054b763f3cffb63